سوريتنا – العدد 209 – 20/09/2015

عقيل حسين

إذا كانت النتائج الحقيقية للأفعال السياسية لا تظهر على المسرح إلا بعد مرور ما يكفي من الوقت، وبعد أن تصبح هذه الأفعال خارج إطار الملاحظة، فإنَّ من الادعاء القول بمعرفة أسباب التدخل الروسي «المباشر» في سوريا مؤخراً، وأهدافه.

لكن تعالوا نتخيل كيف ذهب أو اتصل قادة الكثير من الدول بالرئيس الأمريكي باراك أوباما، محتجين على هذا الجنوح الروسي، فهل يمكن أن نتصور أنَّ أوباما يفعل شيئاً أكثر من أنه يبتسم لهم وهو يرد: لا بأس، لا بأس .. كل شيء على ما يرام !.

فبعد شهرين من الحراك السياسي المكثف الذي كانت موسكو الوجهة المشتركة في كلِّ تفاصيله، وتجدد الحديث الاستعباطي من زوار الكرملين عن تغير في الموقف الروسي، بدا أنَّ الروس يتركون الآخرين للكلام الذي هو وظيفتهم، بينما يتحركون هم للقيام بوظيفتهم.

هل كانت موسكو تتلاعب بكل هؤلاء المسؤولين؟، وهل تصرَّفت في تحركها المتقدم هذا، والذي لم يكن أحد يتوقع أن يتم الكشف عنه بهذه الطريقة، عكس ما كان الجميع ينتظره منها، بعد كلِّ هذه الزيارات والاتصالات والتصريحات؟.

قطعاً لا، ليس هناك أي مسؤول روسي قال في العلن، ولا في الاجتماعات المغلقة، وإلا فيجب تقديم ما يثبت أن الكرملين قرَّر فعلاً تغيير موقفه من بشار الأسد ونظامه، وما جرى أنَّ موسكو كانت سعيدة جداً بأن ترى نفسها من جديد، محور كلِّ التحركات الديبلوماسية فيما يخصُّ القضية السورية .. لا أكثر.

كما أنَّ روسيا لم تفعل اليوم ما هو جديد، ولم تقم بما لم تقم به من قبل، فمنذ اليوم الأول لم تتوقف شحنات الأسلحة الروسية عن التدفق إلى سوريا لدعم قوات النظام، كما أنه لم ينقطع في أي يوم تنقل الخبراء والضباط الروس بين موسكو ودمشق، ومنها إلى بقية المدن التي يقاتل فيها جيش النظام، من أجل الإشراف التقني والتدريب الفني، أو التوجيه العملياتي أحياناً.

روسيا لم تتغير .. صحيح أنها، رغم التقدم الكبير الذي أحرزه جيش الفتح وبقية الفصائل في ريف إدلب وصولاً إلى سهل الغاب، وفي ريف دمشق وغيرها من المناطق مؤخراً، قد ضاعفت من دعمها وحضورها المباشر لصالح حليفها الأسد، إلا أنه لا يمكن وصف ذلك بالتحول، إلا بالقدر اللازم «من وجهة نظرها» لمواجهة تزايد خسائر جيش النظام ومن يقاتل معه، وبشكل تفترض أنه يحافظ على التوازن الذي لطالما أرادت الدول الكبرى أن تحافظَ عليه أيضاً، وبالتالي فإن روسيا تقوم بدورها ووظيفتها لا أكثر، فما الذي تغير إذاً ؟!

منطقياً، لا شيء، وعليه، فإنَّ كل ما عبر عنه العالم من دهشة وما أظهره من تفاجؤ ليس سوى تصرف روتيني أصبح مملاً ومكشوفاً، أما إذا كان هناك ما هو خارج السياق فعلاً، وهذا احتمال ضئيل، فإنه يتعلق بما اعتاد عليه الجميع لدى الروس، من انتهازية مفرطة، جعلهم دائماً شريكاً أو أجيراً مُتعباً وغير موثوق به.

لكن روسيا أيضاً لا تثق بالآخرين مهما كان الاتفاق الضمني أو المباشر معهم، وتراخي الجميع وتردُّدهم إزاء الوضع في سوريا، مع شعورها بالنجاح الكامل في أوكرانيا دون دفعِ أيِّ ثمنٍ حقيقي، مشفوعاً بخسارة حلفائها في اليمن «علي عبد الله صالح والحوثيين» جعلها تلجأ إلى هذه الانتهازية في سوريا.

لن تطلب موسكو ما هو أكثر، لكنها عملياً قد تفعل ما هو أكثر بقليل من ذلك .. بالقدر اللازم أو المطلوب، وما دام هناك ما يوجب، أو يسمح بذلك.

تردُّد الغرب أو رضاه، بقيادة أمريكا، وعجز دول الخليج وتركيا عن القيام بما هو حاسم حتى الآن، ورغبة بقية الدول العربية في إطفاء النيران السورية بأية طريقة وأي شكل، وتدهور الحالة العسكرية لجيش النظام وحلفائه الإيرانيين..

كلُّ هذه التفاصيل، إذاً، تجعل الظروف أكثر مثالية لكي تمارس روسيا انتهازيتها، لكن رغم ذلك، لن يكون الأمر بسيطاً إلى هذه الدرجة بالنسبة لموسكو، كما أن الاستناد إلى تفسير «الغباء» وحده في تحليل هذا التمظهر الجديد للروس في سوريا، ليس منصفاً.

نعم، ربما أرادت واشنطن تعريض الروس لمزيد من الإحراج «طبعاً إذا افترضنا أن ما جرى ليس متفقاً عليه» لكن متى كان الدبُّ الروسي حساساً ويصاب بالحرج ؟!.

ستخبر موسكو الجميع بوضوح هذا الأسبوع، أنه إذا كانت استراتيجية أوباما وغيره، تقوم على استنزاف أعداء الولايات المتحدة المفترضين أو الحقيقيين على الأرض السورية، ومنحهم المزيد من الوقت والمساحة لإنهاك بعضهم البعض، فإن استراتيجيتها ليس الوقوع في فخِّ الاستنزاف هذا.

إنَّ ما يهم روسيا هو باختصار، الحصول على حصتها من نتائج هذه الخطة أو تلك كاملة، ولا بأس ببعض الزيادة، وأنها إن كانت قد خرجت عن النص قليلاً، فليس لكي تحرق هذا النص، بل لتحافظ عليه، وعلى استمرار الحاجة لها فيه، وهذا لن يكون متحققاً، إلا بمقدار قدرة فريقها على الاستمرار في اللعب، وهي اليوم تتدخل كمدرِّب لإنقاذ هذا الفريق الذي يتعرَّض لخسائر متتالية.

في المحصلة، وحتى الآن، نحن أمام موقف روسي أبعد قليلاً من الحدود الذي رسمت له في سوريا، ولكن ليس بعيداً إلى حدٍّ يخرجه عن قواعد اللعبة ويستدعي منحه أكثر مما يجب، وفي مقدمة ذلك الحديث عن انقلاب في الموازين قد يحدثه هذا الشكل الجديد من الحضور الروسي على الأرض.

إننا في الواقع أمام لعبة لها قوانين وقواعد متفق عليها، وما تفعله روسيا، إن لم يكن تطبيقاً صارماً لهذه القواعد، فهو غشٌّ بسيط يضطرُّ إليه اللاعب الذي يخسر من أجل تحسين موقفه.

التعليقات

//