كانت الهدنة ومراقبتها الخبر الأول في وسائل الإعلام الدولية والمحلية خلال الشهر الجاري، ففجأة وبدون سابق إنذار فرض وزيرا الخارجية الأمريكي والروسي الهدنة على السوريين، وبالرغم من ظروف الهدنة المعلنة والاستثناءات المرافقة لها، إلا أنها أتاحت فرصة قيمة استثمرها الثوار مرة أخرى لإحياء الحراك السلمي من جديد.

ليس مسار الهدن جديدًا على الثورة السورية، وقد أبرم النظام السوري عدة هدن مع المعارضة خلال سنين الثورة الخمسة، وما يميز هذه المرة أنها أعلنت على الصعيد الوطني ككل والتزمت بها جميع الأطراف، نسبيًا، حتى غير المعنيين بها، كجبهة النصرة مثلًا

نحاول في هذه المادة تتبع تغطية عدد من صحف الإعلام البديل المطبوعة لقضية الهدن، بدءًا من الهدنة الأولى في منتصف 2014، وحتى الهدن الأخيرة أواخر الشهر الماضي، وتقسم المادة إلى مقدمة نستعرض فيها بشكل مختصر مسار الهدن أو “المصالحات”، ثم نرى كيف تعرضت للقضية كل من صحف “سوريتنا، وطلعنا عالحرية، وعنب بلدي، وزيتون، وحبر”.

 

أبرز الهدن والتسويات بين الأسد والمعارضة

في لقاء مع ثماني صحف روسية اعتبر بشار الأسد أن “ المصالحات الوطنية” في سوريا حققت نجاحات كبيرة، وهي التي أدت إلى تحسن الأوضاع الأمنية للكثير من المواطنين السوريين، وبالرغم من تصوير النظام أن هذه الهدن والمصالحات تصب في صالحه، إلا أنها كثيرًا ما ساعدت في تخفيف المعاناة عن الناس مع انسداد الأفق سياسيًا وعسكريًا، بل إن المدن المهادنة عادت أحيانًا بالفوائد على المدن التي رفضت الهدنة، كحالة داريا والمعضمية على سبيل المثال، واختلفت شروط الهدن فيما بينها قليلًا أو كثيرًا بحسب ظروف كل مدينة ووضعها العسكري، ولكن بالمجمل كان سحب السلاح الثقيل، ورفع علم النظام في مناطق المعارضة، وإخلاء المقاتلين أو تسوية أوضاعهم من الشروط الثابتة التي دائمًا ما حصل عليها النظام.

في العدد 198، نشرت عنب بلدي تقريرًا أعده عبادة كوجان عن  أبرز الهدن والتسويات بين نظام  الأسد والمعارضة في سوريا، فيما يلي اقتباسات منه:

مقاتلو المعارضة يغادرون حمص

السابع من أيار 2014، كان موعدًا لخروج مقاتلي المعارضة السورية من أحياء حمص القديمة متجهين شمالًا نحو الريف الخارج عن سيطرة الأسد. أحرار الشام وجبهة النصرة والجيش الحر رزحوا تحت حصار كامل لمدة عامين في عدد من أحياء المدينة التي أطلق عليها ناشطون لقب “عاصمة الثورة”، إلى جانب مئات العوائل التي فضلت البقاء، على مرارة النزوح، وسط دمار نال من معظم الأبنية والمرافق العامة، لتعود بعد ذلك إلى نظام الأسد برعاية إيرانية وإشراف أممي.

هدن فاشلة في حماة

لجأت قوات الأسد إلى أسلوب الهدن مبكرًا في حماة، ولعل هدنة بلدة قلعة المضيق في الريف الشمالي الغربي هي الأقدم قبل نحو ثلاثة أعوام، وقدمت نموذجًا فريدًا اعتمد على مبدأ توازن القوى داخل البلدة المتاخمة لسهل الغاب، وقد كانت مهددة على الدوام بسبب معارك سهل الغاب إضافة إلى المواجهات التي جرت في جارتها كفرنبودة.

نموذج كفرنبودة يختلف كليًا عن “القلعة” المجاورة، إذ بدأ العمل بها مطلع آب 2014، وأعيد بناء بعض المنازل المدمرة وتنظيف الطرقات من الركام، إثر معارك طويلة استمرت ما يقارب عامًا ونصف العام. وقد كانت عودة الأهالي إليها مشروطة بعدم جعلها مركزًا عسكريًا. مطلع تشرين الأول 2015 خرقت الهدنة من قبل قوات الأسد، التي خيرت سكانها بين جعلها مركزًا لمرور الأرتال البرية نحو قرى وبلدات ريف إدلب الجنوبي، أو تدميرها تحت وطأة القصف المتنوع، فكان الخيار الثاني ونزح أهلها عنها مجددًا لتصبح ساحة معارك، وحاولت قوات الأسد السيطرة عليها لكنها فشلت كليًا، وماتزال تخضع لسيطرة الجيش الحر دون وجود أهلها.

اتفاق “إدلب- الزبداني” عراقيل وخروقات

ثلاثة أشهر استمرت خلالها المعارك على تخوم مدينة الزبداني، ابتداءً من حزيران 2015، دون تمكن قوات الأسد وحزب الله اللبناني والميليشيات الموالية من إتمام السيطرة الكاملة عليها، وسط صمود لمقاتلي المدينة، الذين ينتمون بمعظمهم إلى حركة “أحرار الشام” الإسلامية.

الاتفاق الأخير الذي رعته طهران وأنقرة، ووقّع في اسطنبول بمشاركة منتدبين عن غرفة عمليات جيش الفتح، بدا للوهلة الأولى أنه انفراج حقيقي لبلدات الجنوب والشمال المشمولين بالاتفاق، لكن عراقيل بدأت تظهر مع التدخل الروسي في سوريا، إذ ماتزال مضايا وبقين ترزحان تحت حصار كامل.

وشهدت البلدات المحاصرة في سهل الزبداني، انفراجًا نسبيًا مع دخول المساعدات إليها، مطلع العام الجاري، ولا سيما بلدة مضايا، مقابل دخول مساعدات مماثلة إلى بلدتي كفريا والفوعة المواليتين شمال إدلب.

الهدن الدمشقية

تتركز جهود نظام الأسد على إخماد جميع المناطق الثائرة ضده داخل العاصمة أو في محيطها، وبدأ قبل نحو عامين بسلسلة اتفاقيات وهدن شملت مدنًا وبلدات جنوب دمشق وغربها، إضافة إلى أحياء بداخلها ولعل هدنة برزة المنعقدة منذ شباط 2014 هي أبرزها، وقد استفادت منها الغوطة الشرقية كممر للأغذية، وتبعتها أحياء القابون وتشرين، في أيلول من العام نفسه.

وتشهد هدنة برزة “زعزعة” ربما تفضي إلى إنهاء العمل بها، جراء إغلاق النظام السوري الطريق الوحيد إليها، خلال آذار الجاري، ودخولها حصارًا جزئيًا إلى جانب حيي القابون وتشرين، ترافق مع مطالب جديدة للنظام تلخصت بتسليم السلاح الثقيل، ورفع علم النظام داخلها.

جنوب دمشق.. تحييد الأحياء

في الجنوب، وتحديدًا بلدات بيت سحم وفي الجنوب، وتحديدًا بلدات بيت سحم ويلدا وببيلا، وقعت فصائل هذه الأحياء على هدنة مفتوحة مع قوات الأسد في شباط 2014، ومازالت مستمرة حتى اللحظة.

بعد ثلاثة أشهر، وتحديدًا في أيار 2014، نجح نظام الأسد بتحييد حيي القدم والعسالي عن الصراع العسكري، وفق هدنة وقّعت مع قوات المعارضة فيها، ببنود مماثلة لما حدث في ببيلا ويلدا وبيت سحم، يضاف إليها وقف نظام الأسد عمليات الهدم التي بدأها مع انطلاق الثورة في الجنوب الدمشقي، كما أنه لم يشترط هذه المرة سحب السلاح الثقيل من مقاتليها.

ووفق ما سبق، أصبحت منطقة جنوب دمشق آمنة على نظام الأسد بشكل شبه كامل، عدا عن حي التضامن الذي مايزال يشهد مواجهات متقطعة بين مقاتليه وقوات الأسد، إضافة إلى حي الحجر الأسود الخاضع لتنظيم “الدولة الإسلامية” منذ مطلع عام 2014، ومخيم اليرموك الذي شهد اقتتالًا بين التنظيم وجبهة النصرة من جهة، وفصائل فلسطينية من جهة أخرى.

الغوطة الغربية.. رفع الأعلام

مشاريع الهدن بدأت في محيط دمشق من مدينة معضمية الشام، المجاورة لمدينة داريا في الغوطة الغربية للعاصمة، ورفع علم النظام السوري فوق خزان المياه وسط المدينة بتاريخ 25 كانون الأول 2013 لمدة 72 ساعة كبادرة حسن نية، بعد معارك وحصار دام أكثر من عام، وقد خرقت الهدنة عشرات المرات من قبل النظام، وأغلق الطريق الواصل بين المدينة ودمشق، ثم قصفها بالبراميل، بهدف عزلها التام عن مدينة داريا، حتى تحقق له ذلك في يناير من العام الجاري.

قدسيا وما بعدها

خرج 135 مقاتلًا من أبناء مدينة قدسيا مع عائلاتهم نحو محافظة إدلب، شمال سوريا، برفقة الهلال الأحمر السوري ولجنة المصالحة في المدينة، بتاريخ 30 تشرين الثاني، كشرط رئيسي وضعه النظام لإعادة فتح الطريق وفك الحصار الكامل المفروض عليها.

الهدنة التي جرت برعاية لجان المصالحة ومفتي دمشق وريفها، محمد عدنان الأفيوني، ستتوسع لتشمل بلدة الهامة، التي إن وافق مسلحوها على ذات البنود فإن طريق قدسيا- دمشق سيفتح بشكل كامل بعد إغلاق استمر نحو ستة أشهر.

ويؤكد ناشطون سعي نظام الأسد إلى تنفيذ ذات “التسويات” في بلدات وادي بردى (بسيمة، عين الفيجة، وادي مقرن، كفير الزيت..)، وصولًا إلى منطقة آمنة تمتد من الزبداني فمضايا وصولًا إلى العاصمة، وبالتالي ضمان الاستقرار الأمني والعسكري لنظام الأسد بعد “ترويض” الشريان الواصل بين القلمون ودمشق.

 

مراكز الأبحاث العالمية تهتم بالهدن

في مراكز الأبحاث العالمية احتلت قضية الهدن اهتمامًا خاصًا، واعتبر كثير من الباحثين والسياسيين أن فيها ما يمكن تطويره والبناء عليه، فقدم كل من ستيفين سايمنز، وجوناثان ستيفنسن، وهما من الموظفين السابقين الكبار في الإدارة الأمريكية، ورقة دعموا فيها فكرة الهدن واقترحوا قيام مناطق حكم ذاتي يتمتع فيها السنة بالحكم، في حين يبقى الجيش بيد السلطة العلوية الحاكمة، معتبرين أن الفرصة مواتية الآن بسبب صعود عدو مشترك هو تنظيم “الدولة الإسلامية”، وذات المنطق ذهب إليه الباحث يزيد صايغ في كارنيغي حين اعتبر أن الطريق لهزيمة تنظيم الدولة يبدأ من هدنة شاملة بين النظام ومعارضيه.

على هذه الهدن بنى دي ميستورا خطته، التي طرحها في نوفمبر 2014، القاضية بتجميد القتال في مدينة حلب ومناطق سورية مختلفة، والتوصل إلى هدن ومصالحات مؤقتة تتيح ممارسة إدارة ذاتية في هذه المناطق. ويجري التعبير عن هذه الإرادات من خلال مجالس محلية منتخبة أو توافقية يتم فيها تمثيل فصائل المعارضة المسلحة بحسب حجم كل فصيل وفاعليته، ولكن دي ميستورا اصطدم بعدة عوائق، أبرزها عدم جدية روسيا وأمريكا في إيجاد هدنة.

في 31 كانون الأول 2015، نشر “مركز دراسة الحرب” دراسة تم التوصل فيها إلى أن  وقف إطلاق النار الذي تقوده الأمم المتحدة بين النظام والمعارضة في سوريا قد حقق نتائج ملموسة، لكنه قد لا يجعل إقامة المفاوضات في سوريا أكثر احتمالًا، وحيث تطمح الأمم المتحدة لاستخدام هذه الاتفاقات المحلية لتحقيق وقف إطلاق نار على الصعيد الوطني، كإجراء لبناء الثقة قبل المفاوضات بين قوات النظام والمعارضة (جنيف 3)، فإن نجاح هذه الصفقات كان إلى حد كبير نتيجة الحصار والقصف الجوي للمناطق التي تسيطر عليها المعارضة من قبل القوات الموالية للنظام، ما أجبر مقاتلي المعارضة المحلية والسكان المدنيين على الخضوع لوقف إطلاق النار، وعلى هذا النحو، فإنها قد لا تساهم فعلًا في تعزيز ثقة المعارضة على طاولة المفاوضات.

وقدر مركز دراسة الحرب في الدراسة أن القوات الموالية للنظام تسعى لتأمين وقف لإطلاق النار في ثلاث مناطق إضافية في دمشق، وفي منطقة واحدة شمالي مدينة حمص قبل مفاوضات كانون الثاني (جنيف3). استهدف النظام بكثافة السكان المدنيين في هذه المناطق بالبراميل المتفجرة، والغارات الجوية الشديدة، والقصف، ومزاعم باستخدام الأسلحة الكيميائية، على الأرجح من أجل إجبار القوات المحلية والسكان المدنيين على الاستسلام، وكان مركز دراسة الحرب يرجح أن تكون كل من غوطة دمشق الشرقية، الرستن وتلبيسة، ومخيم اليرموك والحجر الأسود والمعضمية، من ضمن المناطق المستهدفة.

 

استطلاع مركز عمران للدراسات:

الهدنة مطلب تفرضه الظروف والمعارضة لا تحسن توظيفها بالشكل الصحيح

من الملاحظ أن هناك شحًا بالاستطلاعات والتحليلات العلمية المبنية على الأرقام التي أنتجتها المراكز البحثية العربية أو السورية، فضلًا عن صحف الإعلام البديل، كما سوف نرى، واقتصر بحثنا على استطلاع نشره مركز عمران للدراسات، منذ عام ونصف تقريبًا، لكونه لصيق الصلة زمانيًا ببدء فكرة المصالحات المحلية.

ففي استطلاع للرأي أجراه المركز في شهر آب 2014 شمل 1000 شخص من مناطق الهدن والمصالحات، بشكل عام، أكد غالبية المستجيبين (القاطنين والمهجرين) أنهم مايزالون يؤيدون الهدن القائمة في مناطقهم، مقابل اعتراض ما يقارب ربعهم.

وجاء تأييد الهدن بين اللاجئين المهجرين عن بلداتهم أعلى ممن هم مازالوا في مناطقهم، وأعطى قرابة 25% من المستجيبين درجة أولى لرفع الحصار كسبب لقبول الهدنة، فيما اعتبر حوالي 32% من المستجيبين أن توفير الأمن ووقف إطلاق النار هو السبب الأبرز لقبولها، وأكد حوالي 66% من المستجيبين بأنهم لم يغيروا موقفهم من الثورة.

وعن أهم إيجابيات الهدنة أوضح المستجيبون للاستطلاع بأنها: التحسن الطفيف على المستوى الخدمي، وعودة الهدوء نسبيًا، كما أنها فرصة لتمكين الفعل الثوري، أما السلبيات فهي: أن الهدنة لم تضمن القيم الإنسانية، وعدم فعالية الأجسام الثورية، وعدم تحصين العلاقة مع الحاضنة الشعبية، وتحديث المعلومات الأمنية للنظام.

وتخلص الدراسة إلى أن قبول الهدن من حيث المبدأ يفرض نفسه على البيئة الحاضنة للثورة. لكن يُلحظ غياب قوى المعارضة عن تأصيل وتوثيق هذه الهدن بالمعنى القانوني ومتابعتها والعمل على تطوير الأدوات الثورية، ويجب بناء استراتيجية تجعل من حالة الهدنة محفّزا على التقييم والاستعداد والتطوير، وتنطلق هذه الاستراتيجية وفق ثلاثة مستويات: المستوى العسكري والأمني، والمستوى الإداري، والمستوى السياسي.

إن اتفاقيات الهُدن بصيغتها القائمة كما يروج لها لا يمكن أن تشكل مدخلًا لإنهاء حالة الصراع في سوريا، إذ إن طرحها ضمن إطار مجتزأ وتوظيفها لمعالجة الظواهر التي أفرزتها سياسات النظام العنفيّة لا يفيد في حل جوهر الصراع القائم، كما أن فرص استمراريتها هي ضعيفة، وهو ما يستدل عليه من خلال مؤشرين، مؤشر الثقة ومؤشر الرضا، اللذين بينت الدراسة انخفاضهما بشكل واضح.

 

كيف غطت الصحف المحلية الجديدة الهدن والمصالحات وحالات وقف إطلاق النار؟

الجميع يريد هدنة والجميع يريد إسقاط النظام (جريدة سوريتنا)

تنقل جريدة سوريتنا أخبار الهدن والمصالحات بشكل محايد، دون التعليق على أحداثها أو تحليلها، وتعتبر تغطيتها شحيحة لموضوع الهدن والمصالحات بشكل عام، ولكنها نقلت في العدد 221، إثر هدنة قدسيا، رأي مراقبين في أن الهدن التي يجريها النظام في محيط العاصمة تهدف إلى تفريغ المدن من ساكنيها وإحداث تغيير ديموغرافي لإنتاج “كانتون طائفي علوي في دولة مسخ”، ونجد في العدد 222 تقريرًا عن الوعر بعد أسبوعين من هدنتها، ترد في مقدمته عبارة على لسان أحد الناشطين، يمكن اعتبارها ممثلة عن حالة الارتباك الحاصلة تجاه الهدن، “هناك غصة في نفوس الشباب، الجميع يريد الهدنة، والجميع يريد إسقاط النظام”.

احتلت الهدنة الأخيرة، المعلنة في أواخر شباط 2016، مساحة لافتة في “سوريتنا”، فنجد في العدد 232 الصادر بعد ساعات من بدء الهدنة، والذي حمل غلافه عبارة ذات دلالة: “وقف اللعب بالنار”، مع صورة لوزيري خارجية أمريكا وروسيا، تقريرًا يرصد فيه مجمل الآراء في الساحة الثورية مع تقديم للصحفي طارق أمين يبدي فيه تفاؤله الحذر بنجاح الهدنة، فـ ”الآمال بالهدنة باتت متواضعة بسبب غدر النظام، إلا أن تغير الظروف الدولية والإقليمية بات يجعلها أكثر من مجرد حبر على ورق”، وبكل الأحوال نجد أن مقالات الرأي في هذا العدد كانت داعمة للهدنة بطريقة أو بأخرى، فـ ”هدف الحرب هو الحرب” كما يقول الصحفي خالد قنوت في مقال الرأي، و”الحرب القائمة ستظل قائمة وسيظل السوريون هم من يدفعون ثمنها الأعظم،… ألسنا جميعا كسوريين أمام امتحان وطني عظيم، قد يكون نهائيًا ووجوديًا؟“، ومع إقراره أن الشعب السوري يتطلع إلى إيقاف القصف والاعتداءات ضده، إلا أن الكاتب أحمد مظهر سعدو يؤكد في ذات العدد أن “الشهداء وفقط الشهداء هم من سيكتب تاريخ المنطقة” وليس الهدنة أو غيرها.

واحتفت الجريدة في العدد التالي (العدد 233) بعودة المظاهرات السلمية “إلى الواجهة من جديد”، التي اعتبرت عودتها نتيجة لتوقف القصف، وقد اقترح الكاتب علي سفر على الإعلام البديل “تغطية خبرية تبنى على ديمومة الحدث لا على تقطعه، فيجب على الفاعلين الإعلاميين أن يضعوا كل خبراتهم التي اكتسبوها خلال الفترة الماضية في خدمته“، كما نجد في ذات العدد تقريرًا مفصلًا أعده مراسلو الجريدة في مختلف مناطق سوريا عن مسار الهدنة، أشاروا فيه “أن الهدنة أتت بآثار إيجابية في بعض المناطق، فيما ارتفعت معها معدلات القصف والمعارك في مناطق أخرى، خاصة أنها حملت معها استثناءات يمكن للنظام السوري وحلفائه توسيع نطاق المعارك والقصف من خلالها”.

الهدنة الشاملة هي الحل (جريدة عنب بلدي)

تعتبر عنب بلدي الأكثر تناولاً لموضوع الهدن والمصالحات من بين الصحف التي قمنا بتتبعها، وقد يعود ذلك لكون مدينة داريا، التي تصدر الجريدة باسمها، معنية بالمفاوضات بشكل كبير، وكذلك بلدة المعضمية المجاورة والريف الدمشقي بشكل عام، وتناولت الأعداد 102 و103 و118 و121 و128 أخبار هدن المعضمية وداريا وحمص والآراء المتباينة للأهالي والجهات الثورية دون التعليق عليها بالسلب أو الإيجاب. في العدد 112 (نيسان 2014) يلوم شامل الجولاني الفعاليات الثورية التي أوصلت الأحياء الجنوبية للوضع السيئ الذي أدى إلى إبرامها للهدن، ويدعو لإنقاذ الحجر الأسود من الوقوع في الهدنة قبل فوات الأوان، وفي نفس العدد نجد في مقال لمى الديراني، أن تردي الأوضاع المعيشية والمادية هو الذي يدفع البلدات للمهادنة، وتذكر قصة أحد الشبان الذين قتلوا في صفوف النظام بعد أن أجبرته ظروفه المعيشية على العمل في اللجان الشعبية.

في العدد 118 مقال بعنوان “المصالحات ما لها وما عليها”، يشبه فيه الكاتب المصالحات بما جرى في حربي الشيشان والجزائر حين استخدمت كوسيلة لإخضاع الشعب الثائر، ويقول بأن سلبيات المصالحة تفوق إيجابياتها، لكن بلا شك لا أحد يستطيع لوم الأهالي الذين أقدموا على الهدنة.

في افتتاحية العدد 119 (حزيران 2014) تقول الجريدة إن الهدن ليست عيبًا بذاتها، ولكن بقبول الثوار شروط النظام التي يفرضها من منظور فرعوني دون ضمانات أو بوادر، فإنهم بذلك ينقلبون على مبادئ ثورتهم ويعترفون بشرعية الأسد.

في العددين 115 و116 تغطية لخروج مقاتلي حمص منها مقابل الإفراج عن أسرى للنظام وحلفائه، وعن آثار هذه العملية، التي تعتبر لصالح النظام. وفي مقال لأحمد الشامي تعليقًا على خروج مقاتلي حمص القديمة يقارن فيه بين حلفاء النظام الذين يهبون لنجدة حمص في حين يغط “جيش علوش” وأمثاله في نوم عميق.. وكيف نتوقع أن يساعدنا العالم ونحن ندافع عن جبهة النصرة؟ ويضيف: في الحرب هناك منتصر يحظى بكل شيء وخاسر لا يحظى بأي شيء.

الأعداد 184 و187 و198 و199 و203 وغيرها حملت أخبار هدن كفريا والفوعة- الزبداني، وهدنة الوعر، وفي العدد 197 أجرت عنب بلدي استطلاعًا للرأي عن هدنة الغوطة، وكان القاسم المشترك بين الآراء أنهم يرون “الهدنة الشاملة” هي التي يمكن أن تشكل حلًا، لا هدنة هنا أو هناك، كما أن الضمانات الدولية هي الأجدى من الضمانات الروسية.

أفردت الصحيفة مساحة واسعة للهدنة الأخيرة، وقد يكون تفسير ذلك هو الوضع السيئ عسكريًا وإنسانيًا لمدينة داريا إلى لحظة إعلان الهدنة، كما أن الإشاعات المتداولة عن استثناء داريا من الهدنة جعلت المدينة ضمن دائرة الاهتمام، مبدية “تفاؤلًا حذرًا” في افتتاحية العدد 211، خاصة مع عودة المظاهرات السلمية على الساحة، معتبرة “أن البلاد أمام فرصة جديدة، نجاحها مرهون بالاستفادة من دروس الثورة نفسها”.

لم تتعامل مقالات الرأي مع الهدنة بإيجابية، فاعتبر أحمد الشامي أن “هذا التفاهم يتم على حساب المسلمين السنة”، مؤكدًا أن “وقف إطلاق النار إن تحقق سيكون أشبه بفاصل مسرحي وفرصة لاستراحة القتلة بانتظار مجازر جديدة”، وبذات التشكيك قابلت الكاتبة حذام عدي الهدنة، “على السوريين ألا يثقوا بأي مبادرة، فالمبادرات الروسية والأمريكية سواء”، ولكن تعود فتستدرك أن “الرفض ليس في صالحهم أيضًا، فلا بد من دراسة كل حالة بمعيار مصالحنا فقط”.

الهدنة على كف عفريت  (مجلة طلعنا عالحرية)

في العدد 38  يكتب أبو القاسم السوري عن هدنة المعضمية كـ ”خطوة خارج السياق”، يبرر فيها الهدنة، فـ ”المعضمية منذ أكثر من عام تعيش حالة حصار لم يشهد التاريخ مثلها”، وهو ما يجعل الهدنة مبررة بغض النظر عن توقيتها.

قدمت الجريدة ملفًا شاملًا في العدد 42 عن الهدن والمصالحات، التي تبدو على “كف عفريت” بحسب تقديم أسامة نصار للملف. ونجد في الملف تناولًا للقضية من جوانب مختلفة، ولكنها تتفق فيما بينها إلى حد ما، أن الهدن ما لم تكن على مستوى وطني وضمن سياسة عامة تنتهجها المعارضة فلن تصب إلا في مصلحة النظام.

وفيه مقال لعلي فاروق، الذي يعتبر أن الهدن تصب في مصلحة النظام، والكثير من المشايخ الذين يدعون أنهم وجهاء البلدات المهادنة يلعبون دورًا في ذلك، فأهدافهم هي ذات أهداف النظام. ويعدد الكاتب الأوجه التي تخدم فيها المصالحة النظام، وكون الهدن في معظم الحالات حصلت على أيدي المشايخ الذين يسيّرهم لأهدافه.

وبحسب أوس المبارك في ذات العدد فليس “وهمًا ثورجيًّا” أن نقول أن لا حدثَ يستحق التعويل عليه أو التخوّف منه ضمن تلك الهدن والمصالحات، فالشعب السوري يعرف طريقه جيدًا، والنظام لم يربح سوى الترويج محليًا ودوليًا لهدن أخرى.

احتلت الهدنة مساحة واسعة في العدد الأخير لـ”طلعنا عالحرية” (العدد 66) وقد اختلفت الآراء الواردة، وإن اتفق معظمها على أن الهدنة الحاصلة شيء إيجابي، متمنين استمرارها، بل إن الكاتب نبيل شوفان اعتبرها إذلالًا للنظام وتصفيرًا للعداد، و”جعلت رحيله عبر عملية سياسية أكثر سهولة”.

لا تصالح ولو منحوك الذهب  (جريدة زيتون)

في العدد 72 (تموز 2014) من جريدة زيتون، يقول حسن وجيه قدور إن النظام هو المستفيد الوحيد من المصالحات، وإنه لا يلتزم بما يتعهد به لدى إبرام الهدن، وفي العدد 66 تنقل الصحيفة عن مصدر في الجيش الحر أن المفاوضات هي دليل عجز وضعف النظام وعدم قدرته على الحسم العسكري. وترفق الصحيفة في العدد 76 خبرًا عن المصالحة في القدم والعسالي بكاريكاتير يحوي عبارة: “لا تصالح ولو منحوك الذهب” لأمل دنقل.

ويلاحظ بعدها أن صحيفة زيتون لم تعد تأت بأخبار أو تحليلات عن الهدن والمصالحات، ولكنها خصت الهدنة الأخيرة بتغطية جيدة في العدد الصادر بعد الهدنة (العدد 126)، مركزة بشكل خاص على مدينة داريا وما أثير عن استثنائها من الهدنة، كما أشارت إلى قضية استثناء مناطق تنظيم الدولة والنصرة من خلال تقرير رصدت فيه تفاعل مختلف المناطق السورية مع هذه القضية.

الهدنة بداية اللعبة (جريدة حبر)

تصدر “حبر” من مدينة حلب، وحتى خطة دي ميستورا بتجميد القتال في حلب، كانت المدينة وريفها خارج أي حديث عن الهدنة، وهو ما يفسر غياب الهدن عن الصحيفة بشكل شبه تام، كما فسرت تحركات دي ميستورا “طائفيًا” في بعض الأحيان.

لم تحظ خطة دي ميستورا لتجميد القتال بأي احترام، ونجد في العدد 70 مقالًا ينتقد زيارته للسيدة زينب في العاصمة دمشق، معتبرًا إياه منحازًا لصالح النظام، كما نجد ملفًا عن مبادرة دي ميستورا في نفس العدد “فبعد حضوره أحد احتفالات المجوس في دمشق، خرج ليعلن على الملأ أن بشار جزء من الحل في سوريا”، ويكمل الكاتب محمود الحاج مصطفى في انتقاد دي ميستورا “يتمتع المبعوث الدولي دي ميستورا بطول البال وعدم الملل، فهو يقدم مبادرة تلو الأخرى في محاولة لإظهار حسن النية، والتوصل إلى حل يرضي الأطراف جميعًا، ولكن الواضح أنه كلما ضاق الخناق على النظام السوري وتقدمت طلائع المجاهدين في الميدان، قدم دي ميستورا مبادرته وألح عليها ليفك القيود عن أيدي الأسد المعترف به في الأمم المتحدة “.

في حين اعتبر يامن زيدان الهدنة ”قرار أمريكي بإطفاء الشموع وتوزيع المصالح”، فالهدنة “بداية اللعبة” لسايكس بيكو جديد، ”ولغة الاستثناءات في الهدنة تجعل جميع من قبل بها أمام عدو مشترك”.

 

لا حلول ولا خيارات بديلة

إذن، نجد فرقًا بين تغطية الهدن والمصالحات المحلية، وتغطية الهدنة الأخيرة، ففي حين نجد غيابًا أو ضعفًا في تغطية أخبار الهدن والمصالحات المحلية أو اعتبارها أخبارًا هامشية لدى البعض، احتلت الهدنة الأخيرة مساحات واسعة لدى معظم هذه الصحف، واحتفت بشكل خاص بما نتج عنها من عودة للحراك السلمي إلى الثورة.

اعتبرت الصحف (التي تابعناها) الهدن المحلية أشبه ما تكون بنصر للنظام، كما ركز بعضها بشكل خاص على البعد الطائفي لهذه الهدن، والتغيير الديموغرافي الذي يمضي به النظام من خلالها، مع أنها جميعًا بررت للأهالي المحاصرين إقدامهم على الهدنة رغم الإجماع أن الهدن تصب في صالح النظام وحملت أحيانًا المسؤولية لتشرذم المعارضة السياسية والمسلحة.

لا تقدم التغطيات حلولًا أو خيارات بديلة عن الهدن، سوى وجوب النظر والتركيز على المستقبل للاعتبار من كون النظام لم يلتزم بالمساعدات الإنسانية مثلًا، أو أنه يخرق بنود الهدنة ووقف إطلاق النار. وغالبا ما تم التعامل مع المدن والبلدات المهادنة على أنها أصبحت خارج دائرة الصراع والحسابات الثورية في المستقبل.

الهدنة الأخيرة كانت محل إجماع إلى حد ما، مع أن الكثير من المقالات أبدت تشكيكها بالهدنة وأهدافها ومآلاتها، إلا أن الترحيب بها والدعوة للقبول بها كان سيد الموقف.

إن نظرة متفحصة لمراكز الأبحاث العالمية تظهر أن الهدن المحلية كانت موضع اهتمام، كما بنى عليها دي ميستورا خطته للهدنة في سوريا، وعليه يظهر أن تجاهل هذه القضية وعدم تسليط الضوء عليها بشكل كثيف، كان، عمليًا، تجاهلًا لقضية شكلت محورًا مهمًا بنى عليه المجتمع الدولي سياسته.

 

التعليقات

//